التسامح الفريضة الغائبة.. من أين البداية؟
التسامح الفريضة الغائبة.. من أين البداية؟
بات العالم في العقود الأخيرة أمام حالة تنامٍ غير مسبوقة من الكراهية والعداء، حالة تكاد تذهب بالجميع إلى مواجهات كونية وحروب عالمية، الأمر الذي تسببت فيه ولا شك موجات الأحقاد والضغائن التي باتت القلوب تحملها شرقاً وغرباً.
والشاهد أن الناظر إلى حال العالم يمكن أن يجد تقسيماً بغيضاً لا مكان فيه للمودات، ففي الغرب نشهد مؤخراً تنامياً غير محمود للتيارات القومية والشوفينية، وللجماعات العنصرية التي تستند في دعواها إلى الأصول العرقية، والبعض يختار المسألة الدينية كمعيار للحكم، وهنا يكثر الحديث عن الإسلاموفوبيا، وكأن أوروبا قد عادت مرة جديدة إلى سيرتها الأولى في النصف الأول من القرن العشرين، حين كادت النازية والفاشية أن تذهبا بالقارة العجوز إلى ما وراء الإنسانية، وقد كلف الأمر بالفعل نحو ست سنوات مستمرة وسبعين مليون ضحية وضعفهم من الجرحى، ناهيك عن الخسائر الاقتصادية.
وفي الشرق تبدو الأصوليات الضارة تضرب من جديد، وما القاعدة وداعش والجماعات الجهادية والتكفيرية سوى إفراز لفكر يرفض الآخر، ولا يؤمن إلا بطرح أحادي الذهن، يقوده التعصب والتمذهب، ويقتل على الهوية عبر الطرقات، بل ويذبح على شاطئ البحر والنهر كما رأينا في ليبيا قبل بضعة سنوات.
ما هو الحل “ومن أين ندخل إلى التسامح؟”، هذا هو عنوان كتاب المفكر العربي الكبير الأستاذ محمد وردي، صاحب المؤلفات العديدة التي تشاغب الفكر وتُسائِل الأيقونات، والتي تفتح الدروب أمام التفكير العميق، علَّ الإنسانية تستيقظ من غفلتها الآنية، وتعلم أن الكراهيات لا تقيم الأوطان، بل التسامح البناء والخلاق والايجابي، وليس أفضل من مثال نيلسون مانديلا، في جنوب إفريقيا، الرجل الذي ترفع عن شهوة الانتقام من جلاديه، ولهذا استطاع قيادة بلاده والجنوب إفريقيين في طريق البناء والنماء، بعد أن ترك من ورائه فكر الثأر وملأ التسامح قلبه.
ما الذي يقدمه الأستاذ محمد وردي، في كتابه القيم الصادر حديثاً عن “دار هماليل”، للطباعة والنشر والتوزيع في دولة الإمارات العربية المتحدة، والذي يقع في أكثر من ثلاثمئة صفحة من القطع المتوسط؟
يحتوي الكتاب على ثمانية فصول بحثية معرفية من الوزن الفكري الثقيل، تبدأ بمقاربات التسامح، وتنتقل إلى مسالة تجديد خطاب التسامح، ثم التسامح في السياق العربي، مروراً بالتسامح في الإسلام، ثم ملاحظات وخلاصات، إلى أن يصل في الفصل السادس إلى ما يسميه أسس تجديد وتطوير خطاب التسامح، ومن بعد استعادة العقل العربي الفاعل، ونهاية بالحديث عن المثبطات والمحبطات، والتي تتقاطع حكماً مع دروب التسامح في الحال والاستقبال.
أحلى الكلام الذي يمكن للمرء أن يقدم به كتاب الأستاذ وردي هو ما أشار إليه المفكر اللبناني الكبير الدكتور فردريك معتوق، في مقدمته والتي جاءت تحت عنوان “التبيئ المعرفي للتسامح”، وعنده أنه أضحى اليوم مصطلح التسامح من الكلمات، المفاتيح، المعتمدة في الأدبيات الخليجية، وهذا أمر مفرح وواعد في آن، فهو مفرح لأنه يشير إلى تجديد طوعي للبنية المفاهيمية العربية، الشديدة التردد في التعامل مع المصطلحات النوعية الوافدة من الغرب، خلافاً لما يحصل في مجالي المصطلحات التكنولوجية والاستهلاكية، وهو أمر واعد لأنه يفتح الباب أمام المساهمة المحلية في بناء مفهوم ليس ملكاً لشعب ما، أو لحضارة بعينها وإنما هو ارث مشترك للبشرية جمعاء.
الدكتور معتوق يرى أن الأستاذ محمد وردي المؤلف يقوم في كتابه الجديد بتقديم إضافة وازنة على مفهوم التسامح، حيث لا يكتفي بتعريبه وتأويله، بل يقوم بتبييئه معرفياً، كاشفاً عن جذور متينة وعميقة له في الثقافة العربية القديمة، كما في الدين الإسلامي.
يدعو الأستاذ وردي إلى عدم الاكتفاء بالتعامل مع التسامح من منطلق وجداني وعاطفي، مشيراً إلى ضرورة التعامل مع هذا المفهوم كمنظور فكري جديد، لحياة المجتمعات العربية المعاصرة، علماً بأن الأمر دونه عقبات جمة، أولاها العقبات المعرفية، ذلك لان الإرث الثقافي العربي الذي يتعامل ويتمسك به أبناء لغة الضاد، مثقل بتكلسات ذهنية، ترسخت مع مرور الزمن، فتحولت إلى أفكار وأحكام مسبقة، منها عدم الرغبة بمساءلة عقلانية لهذا الموروث، الذي يجري التعامل معه بشيء من القداسة أو على الأقل يجري اعتباره في الوعي العام، بمثابة رديف للدين، فلا نقاش للتراث، ولا نقد له، وإنما فقط تجميد وتمجيد.
ولان الكتاب من الجزالة والرصانة بمكان، فها هو المفكر التونسي الدكتور عبدالسلام المسدي الدبلوماسي والأكاديمي الكبير، يقدم لكتاب الأستاذ وردي بطرح رائع عنوان “البحث في الإنسان”، وعنده أن المؤلف محمد وردي في كتابه هذا يعالج قضية جوهرية تقع في مركز دائرة تربطه بمحيطها شعاعات متتابعة، ومن أجل ذلك توخى من المناهج، ذاك المنهج الذي أمسى ينعت بالبيني، على معنى تمازج الاختصاصات، وبفضله يتاح للكاتب أن يأخذ من كل حقل ما يزيد بحثه عناء، وما يتعدد به القراء الذين يتلقون دلالات الخطاب، ولعل هذا ما يفسر مجيء العنوان في قالب سؤال: “من أين ندخل إلى التسامح؟”، والتساؤل كما يقال هو مفتاح باب التأمل الفكري، وهو بالتالي مفتاح الفلسفة، وقديماً قيل: أولى خطى التفلسف الدهشة ثم التساؤل.
أورد المؤلف شواهد من التراث العربي الإسلامي فيها أقوال تشع كالدرر في باب التسامح منسوبة الى رواد كبار في التأمل الفلسفي الخالص، وفي إحياء علوم الدين، وكذلك في “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال”، وكان في كل ذلك على إدراج أبي يوسف الكندي وأبي حامد الغزالي وأبي الوليد ابن رشد، وستمر قرون وقرون حتى يأتي في الحضارة الغربية من سيعلي من حظوة التسامح، ليقول قولاً غدا مضرب الأمثال “إني أخالفك الرأي، ولكن على استعداد لأدفع حياتي ثمناً لحريتك في أن تصدح برأيك”، ألا وهو الأديب الفرنسي الذي أوقد شموعاً أضاءت عصر الأنوار، إنه فولتير.
كتاب الأستاذ محمد وردي يستدعي من ذاكرتنا أنموذجاً من المثقفين أشاد به الرقي الحضاري المعاصر، وتفنن الفلاسفة في إلحاق الصفة الملائمة لوظيفته، فتعددت النعوت وتنوعت بين صناعها من أمثال: جون بول سارتر، وميشال فوكو، ثم بيير بورديو، دون أن ننسى الإيطالي أنطونيو غرامشي، ولنا أن نختار من الصفات لنقول المثقف الملتزم أو المثقف المناضل، أو العضوي أو حتى النقدي.
ويبقى السؤال قبل الرحيل: “هل ينبغي علينا أن نهنئ الكاتب الأستاذ محمد وردي على صدور كتابه القيم هذا، أم نهنئ القارئ العربي الذي بات لديه مرجع من التراث والحداثة عن التسامح كمعنى ومبنى؟”.
أغلب الظن التهنئة واجبة للاثنين معاً.